فصول من صيد الخاطر .

فصول من كتاب صيد الخاطر

بسم الله الرحمن الرحيم، هذه عشرُ فصولٍ ثمينة انتقيتها من كتاب صيد الخاطر، وقد انتقيت سابقاً فوائد قصيرة لمن أراد أن يطّلع عليها يجدها في المدونة.


١- فصل المواعظ وتأثيرها !!
قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظة، فإذا انفصل عن مجلس الذكر، عادت القسوة والغفلة، فتدبرت السبب في ذلك، فعرفته. ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك، فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفته من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها؛ لسببين:
أحدهما: أن المواعظ كالسياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها، وإيلامها وقت وقوعها.
والثاني: أن حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مزاح العلة، قد تخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا، وأنصت بحضور قلبه؛ فإذا عاد إلى الشواغل، اجتذبته بآفاتها، فكيف يصح أن يكون كما كان؟! وهذه حالة تعم الخلق؛ إلا أن أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر، فمنهم من يعزم بلا تردد، ويمضي من غير التفات، فلو توقف بهم ركب الطبع، لضجوا، كما قال حنظلة عن نفسه ( نافق حنظلة) ومنهم أقوامٌ يميل بهم الطبع إلى الغفلة أحيانًا، ويدعوهم ما تقدم من المواعظ إلى العمل أحيانا، فهم كالسنبلة تميلها الرياح، وأقوام لا يؤثر فيهم إلا بمقدار سماعه، كماء دحرجته على صفوان.


٢- فصل - مُراقبة العواقب
من عاين بعين بصيرته تناهي الأمور في بداياتها نال خيرها، ونجا من شرها، وبيان هذا في المستقبل يتبين بذكر الماضي، وهو أنك لا تخلو أن تكون عصيت الله في عمرك، أو أطعته، فأين لذة معصيتك؟! وأين تعب طاعتك؟! هيهات، رحل كل بما فيه، فليت الذنوب إذا تَخَلَّتْ خَلَّتْ!  (فراقب العواقب تسلم ولا تمل مع الهوى فتندم)
 
٣- فصل ( لو لم تُذنبوا )
النفس لو دامت لها اليقظة، لوقعت فيما هو شر من فوت ما فاتها، وهو العجب بحالها، والاحتقار لجنسها!! وربما ترقت بقوة علمها وعرفانها إلى دعوى قولها: "لي، وعندي، واستحق ... " فتركها في حومة ذنوبها تتخبط، فإذا وقفت على الشاطيء، قامت بحق ذلة العبودية وذلك أولى لها !!  هذا حكم الغالب من الخلق، ولذلك شُغلوا عن هذا المقام، فمن بذر، فصلح له، فلا بد له من هفوة تراقبها عين الخوف من عقابها رفقًا بها، تصح له عبوديته، وتسلم له عبادته، وإلى هذا المعنى أشار الحديث الصحيح: "لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون، فيغفر لهم"


٤- فصل: إذا كانت بعض المخلوقات لا تُعْلَمُ إلّا جُملةً فالخالق أجلّ وأعلى !!
يقول ابن الجوزي: رأيت كثيرًا من الخلق وعالمًا من العلماء لا ينتهون عن البحث، عن أصول الأشياء التي أمروا بعلم جملها من غير بحث عن حقائقها! كالروح مثلًا، فالله تعالى سترها بقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} فلم يقنعوا، وأخذوا يبحثون عن ماهيتها، ولا يقعون بشيء، ولا يثبت لأحد منهم برهان على ما يدعيه! وكذلك العقل، فإنه موجود بلا شك، كما أن الروح موجودة بلا شك، كلاهما يعرف بآثاره، لا بحقيقة ذاته.
فإن قال قائل: فما السر في كتم هذه الأشياء؟ قلت: لأن النفس ما تزال تترقى من حالة إلى حالة، فلو اطلعت على هذه الأشياء، لترقت إلى خالقها، فكان ستر ما دونه زيادة في تعظيمه؛ لأنه إذا كان بعض مخلوقاته يعلم جُمْلة، فهو أجل وأعلى.


٥- فصل  ( تلبيس إبليس على العلماء )
يقول ابن الجوزي: يامن يقرأ تحذيري من التخليط، فإني وإن كنت خنت نفسي بالفعل- نصيحٌ لإخواني بالقول: احذروا إخواني من الترخّص فيما لا يؤمن فساده؛ فإن الشيطان يزين المباح في أول مرتبة، ثم يجر إلى الجناح، فتلمحوا المآل، وافهموا الحال! وربما أراكم الغاية الصالحة، وكان في الطريق إليها نوع مخالفة!
فيكفي الاعتبار في تلك الحال بأبيكم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} إنما تأمل آدم الغاية -وهي الخلد- ولكنه غلط في الطريق! وهذا أعجب مصايد إبليس التي يصيد بها العلماء، يتأولون لعواقب المصالح، فيستعجلون ضرر المفاسد!!
مثاله: أن يقول للعالم: ادخل على هذا الظالم، فاشفع في مظلوم! فيستعجل الداخل رؤية المنكرات، ويتزلزل دينه، وربما وقع في شرك صار به أظلم من ذلك الظالم. فمن لم يثق بدينة، فليحذر من المصايد، فإنها خفية، "وَأَسْلَمُ ما للجبان العزلة، خصوصًا في زمان قد مات فيه المعروف، وعاش المنكر، ولم يبق لأهل العلم وقع عند الولاة، فمن داخلهم، دخل معهم فيما لا يجوز، ولم يقدر على جذبهم مما هو فيه".
ثم من تأمل حال العلماء الذين يعملون لهم في الولايات، يراهم منسلخين من نفع العلم، قد صاروا كالشرط، فليس إلا العزلة عن الخلق، والإعراض عن كل تأويل فاسد في المخالطة؛ ولأن أنفع نفسي وحدي خير لي من أن أنفع غيري وأتضرر، فالحذر الحذر من خوادع التأويلات، وفواسد الفتاوى! والصبر الصبر على ما توجبه العزلة! فإنه إن انفردت بمولاك، فتح لك باب معرفته، فهان كل صعب، وطاب كل مر، وتيسر كل عسر، وحصلت كل مطلوب، والله الموفق بفضله، ولا حول ولا قوة إلا به.


٦- فصل  ( ممّا يقوّي الصبر )
قال المؤلف رحمه الله: ومما يقوّي الصبر على الحالتين: النقل، والعقل: أما النقل، فالقرآن والسنة.
أما القرآن، فمنقسم إلى قسمين:

أحدهما: بيان سبب إعطاء الكافر والعاصي، فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} وقوله تعالى {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا}  وفي القرآن من هذا كثير.
والقسم الثاني: ابتلاء المؤمن بما يلقى، كقوله تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} وفي القرآن من هذا كثير.

وأما السنة، فمنقسمة إلى قول وحال:
 أما الحال، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يتقلب على رمال حصير تؤثر في جنبه، فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: كسرى وقيصر في الحرير والديباج! فقال صلى الله عليه وسلم: "أفي شك أنت يا عمر؟! ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟! "

وأما القول، فكقوله عليه الصلاة والسلام: "لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرًا منها شربة ماء"
وأما العقل، فإنه يقوي عساكر الصبر بجنود منها: أن يقول: قد ثبتت عندي الأدلة القاطعة على حكمة المقدر، فلا أترك الأصل الثابت لما يظنه الجاهل خللًا.


٧-  فصل ( الذنوب تمنع إجابة الدعاء )
رأيت من نفسي عجبا! تسأل الله عز وجل حاجاتها، وتنسى جناياتها!! فقلت: يا نفس السوء! أو مثلك ينطق؟! فإن نطق، فينبغي أن يكون السؤال العفو فحسب. فقالت: فممن أطلب مراداتي؟! قلت: ما أمنعك من طلب المراد، إنما أقول: حققي التوبة وانطقي، " فالله الله من جراءة على طلب الأغراض، مع نسيان ما تقدم من الذنوب، التي توجب تنكيس الرأس".


٨- فصل  ( لاتنخدع بمظاهر الودّ )
كان لنا أصدقاء وإخوان أعتدّ بهم؛ فرأيت منهم من الجفاء وترك شروط الصداقة والأخوّة عجائب، فأخذت أعتب، ثم انتبهت لنفسي، فقلت: وما ينفع العتاب؛ فإنهم إن صلحوا، فللعتاب لا للصفاء؟! فهممت بمقاطعتهم! ثم تفكرت، فرأيت الناس بين معارف وأصدقاء في الظاهر، وإخوة مباطنين، فقلت: لا تصلح مقاطعتهم؛ إنما ينبغي أن تنقلهم من ديوان الأخوة إلى ديوان الصداقة الظاهرة، فإن لم يصلحوا لها، نقلتهم إلى جملة المعارف، وعاملتهم معاملة المعارف، ومن الغلط أن تعاتبهم، وجمهور الناس اليوم معارف، ويندر فيهم صديق في الظاهر؛ فأما الأخوة والمضافاة، فذاك شيء نسخ، فلا يطمع فيه، وما أرى الإنسان تصفو له أخوة من النسب ولا ولده ولا زوجته، فدع الطمع في الصفا، وخذ عن الكل جانبا، وعاملهم معاملة الغرباء! وإياك أن تنخدع بمن يظهر لك الود، فإنه مع الزمان يبين لك الحال فيما أظهره، وربما أظهر لك ذلك لسبب يناله منك!! وقد قال الفضيل بن عياض: "إذا أردت أن تصادق صديقا، فأغضبه، فإن رأيته كما ينبغي، فصادقه" وهذا اليوم مخاطرة؛ لأنك إذا أغضبت أحدا، صار عدوا في الحال، والسبب في نسخ حكم الصفا: أن السلف كانت همتهم الآخرة وحدها، فصفت نياتهم في الأخوة والمخالطة، فكانت دينا لا دنيا، والآن، فقد استولى حب الدنيا على القلوب.


٩- فصل  ( أضرار مخالطة الناس )
قال: ومنها مخالطة الناس خصوصا العوام والمشي في الأسواق، فإن الطبع يتقاضى الشهوات، وينسى الرحيل عن الدنيا، ويحب الكسل عن الطاعة والبطالة والغفلة والراحة، فيثقل على من ألف مخالطة الناس التشاغل بالعلم، أو بالعبادة، ولا يزال يخالطهم حتى تهون عليه الغيبة، وتضيع الساعات في غير شيء،، فمن أراد اجتماع همه، فعليه بالعزلة، بحيث لا يسمع صوت أحد.
قال: وما رأيت أكثر أذىً للمؤمن من مخالطة من لا يصلح، فإن الطبع يسرق؛ فإن لم يتشبه بهم، ولم يسرق منهم، فتر عن عمله!! فإن رؤية الدنيا تحث على طلبها، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سترا على بابه، فهتكه وقال: " ما لي وللدنيا؟! "، ولبس ثوبا له طراز، فرماه، وقال: "شغلتني أعلامه". وكذلك رؤية أرباب الدنيا، ودورهم وأحوالهم، خصوصا لمن له نفس تطلب الرفعة.


١٠- فصل  ( لايكن علمك حجةً عليك )
قال ابن الجوزي: وقد حكى بعض المعتبرين، عن شيخ أفنى عمره في علوم كثيرة، أنه فتن في آخر عمره بفسق أصر عليه، وبارز الله به، وكانت حاله تعطى بمضمونها: أن علمي يدفع عني شر ما أنا فيه، ولا يبقى له أثر! وكان كأنه قد قطع لنفسه بالنجاة، فلا يرى عنده أثر لخوف، ولا ندم على ذنب!! قال: فتغير في آخر عمره، ولازمه الفقر؛ فكان يلقى الشدائد، ولا ينتهي عن قبح حاله، إلى أن جمعت له يوما قراريط على وجه الكدية، فاستحيا من ذلك، وقال: يا رب! إلى هذا الحد؟! قال الحاكي: فتعجبت من غفلته، كيف نسي الله عز وجل، وأراد منه حسن التدبير له، والصيانة، وسعة الرزق؟! وكأنه ما سمع قوله تعالى: {وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا} ولا علم أن المعاصي تسد أبواب الرزق، وأن من ضيع أمر الله ضيعه الله؟! فما رأيت علما ما أفاد كعلم هذا؛ لأن العالم إذا زل انكسر، وهذا مصر، لا تؤلمه معصيته، وكأنه يجوز له ما يفعل، أو كان له التصرف في الدين تحليلا وتحريما، فمرض عاجلا، ومات على أقبح حال..
قال الحاكي: ورأيت شيخا آخر، حصل صور علم فما أفادته، كان أي فسق أمكنه، لم يتحاش منه، وأي أمر لم يعجبه من القدر، عارضه بالاعتراض على المقدر واللوم، فعاش أكدر عيش، وعلى أقبح اعتقاد، حتى درج!! وهؤلاء لم يفهموا معنى العلم، وليس العلم صور الألفاظ؛ إنما المقصود فهم المراد منه، وذاك يورث الخشية والخوف، ويري المنة للمنعم بالعلم، وقوة الحجة له على المتعلم.. نسأل الله عز وجل يقظة تفهمنا المقصود، وتعرفنا المعبود. ونعوذ بالله من سبيل رعاع يتسمون بالعلماء، لا ينهاهم ما يحملون، ويعلمون ولا يعملون، ويتكبرون على الناس بما لا يعملون، ويأخذون عرض الأدنى، وقد نهوا عما يأخذون، غلبتهم طباعهم، وما راضتهم علومهم التي يدرسون، فهُم أخسّ حالا من العوام الذين يجهلون، {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون}.


جمعها / عبدالله الزوبعي
بتاريخ: ١٣/ ٦ / ١٤٣٦ هجري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

;